طرابلس الفيحاء، مدينة العلم والعلماء، فقد أطلق عليها هذا الأسم، لأنها كانت تحتوي على مكتبة بني عمار، وهم من الشيعة، ويؤكد مؤرخون لبنانيون وعرب، أنها ضاهت مكتبة بغداد في القرن الحادي عشر، كذلك إنتشر في ربوع الفيحاء الاسلام الصوفي المعتدل، وشيدت في مختلف أحيائها العريقة التكيات الصوفية، فكانت تشكل أروع نماذج العيش الواحد، وأحتضنت هذه المدينة قامات وطنية كبيرة، كالرئيس الشهيد رشيد كرامي، والمرحومين الدكتور عبد المجيد الرافعي وفاروق المقدم وسواهم. وفي ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، حافظت عاصمة الشمال الى حدٍ مقبولٍ على نموذج العيش الواحد، ولم يغلق فيها باب كنيسة، أو أي من المدارس المسيحية، والإرساليات الأجنبية، كمدارس (الليسه، الفرير، الأميركان، والطليان).
ومع بروز “السلفية الجهادية” في أفغانستان، وحركة “الأخوان المسلمين” في سورية، كان لهما إنعكاس على الواقع الطرابلسي، بعد تبني هذا الفكر الأصولي، الذي يرفض الآخر، من بعض رجال الدين، الذين بدورهم حرضوا الشباب، لإتباع الفكر عينه، وهنا بدأت تتغير معالم المدينة في أوائل ثمانينيات القرن الفائت الى منتصفها تقريبا، مع تزايد نفوذ حركة التوحيد الإسلامي، المدعومة من ياسر عرفات. في حينه شهدت طرابلس أكبر نسبة نزوح للمدارس والإرساليات الأجنبية، نحو منطقة الكورة، ومعها بدأت رحلة التغيير الديموغرافي للمدينة، خصوصاً بعدما استخدمها عرفات ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، من خلال دعمه للأصوليين، ومحاولة القضاء على الأحزاب الوطنية الطرابلسية، وإستقدام الهاربين من تنظيم “الأخوان” في سورية الى لبنان، وإستخدامهم في استهداف الأمن الوطني السوري، إنطلاقاً من الساحة الطرابلسية، الأمر الذي دفع الجيش السوري الى دخول الفيحاء، وتطهيرها من المسلحين العرفاتيين، في العام 1985، وإستئصالهم نهائيا من لبنان الشمالي، وتحديدا في منطقة الضنية في العام 1987. واستقر الوضع في طرابلس و الشمال الى العام 2005، ما قبل اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تخلل ذلك خرق إرهابي في بداية العام 2000، عرف “بأحداث الضنية”، تم تطويقه بحزم من قبل الجيش، بأشراف مباشر من الرئيس العماد إميل لحود.
وبعد إستشهاد الحريري، وفي ضوء ما شهدته البلاد من مشاحنات وإشكالات بين قوى ما كان يعرف بـ “8 و14 آذار، إندلعت في طرابلس 21 جولة إشتباك بين أبناء المدينة الواحدة، في جبل محسن وباب التبانة، يوم حاول تيار “المستقبل” التعويض عن خسارته في بيروت في 7 ايار 2008، ونقل المعركة الى الشمال وعكار، علّه يرفع من معنويات عناصره المنهارة في حينه، فارتكبوا مجزرة حلبا في حق أفراد من الحزب السوري القومي الاجتماعي في العاشر من الشهر المذكور. وعند إندلاع الأزمة في سورية، كذلك حوّلت القوى اللبنانية المنخرطة في الحرب على الجارة الأقرب، مدينة العلم والعلماء الى منصة لاستهداف الاستقرار السوري، بعدما استخدموها كمقر للإرهابيين، وغرف عمليات للاستخبارات العاملة على تقويض هذا الاستقرار، وتسخير مرفأ المدينة، لتأمين المد اللوجستي للارهابيين في الشطر الثاني من الحدود.
اليوم عادت طرابلس لتتحول أيضاً الى صندوق بريد لايصال الرسائل المحلية والاقليمية، بادارة واشراف من بعض القوى الذين يعتقد أنهم في خط المقاومة والممانعة، فقد أسهمت هذه القوى، بتحويل الفيحاء الى ساحة تصفية حسابات مجدداً، إن بالتواطؤ، وإن بالجهل وقصر النظر، فما يحدث في لبنان من قطع طرق وتظاهرات مخصصة لشتم بعض الرموز، ليس بريئاً، وليس بعيدا عما يحدث حولنا، خصوصا في العراق، وقد عبر عن ذلك الأمين العام لحزب السيد حسن نصرالله في حديثه الأخير. وما ينذر بالخطر، هو سعي المتآمرين في الداخل والخارج الى ضرب الاستقرار اللبناني، والضغط على المقاومة، من خلال استغلال حال الفقر والعوز لدى أبناء الفيحاء، وتجيشها ضد الدولة ورئيس الحكومة سعد الحريري الشريك في التسوية الرئاسية الراهنة، الى جانب الرئيس العماد ميشال عون، وحزب لبنان، كون طرابلس هي “عاصمة أهل السنة” في لبنان، بالتالي فهي اليوم باتت غب الطلب، للضغط على الحريري، في شارعه.
والأخطر والأنكى من ذلك كله، العودة الى استخدام ورقة النزوح السوري، فبعدما استخدمت القوى المذكورة هذه الورقة في الأعمال الإرهابية التي إستهدفت اللبنانيين، بالسيارات المفخخة والإنتحاريين في الضاحية والبقاع وطرابلس، عادت لتستخدم هذه الورقة في المظاهرات الراهنة، ويقوم أحد الأجهزة الأمنية بجمع المعلومات عن النازحين المشاركين في هذه المظاهرات، الذين يتلقون الدعم من الجمعيات والشخصيات التي تدعم بالمال “الحراك الشعبي”..
حمى الله طرابلس ودفع عنها شر الفتن والمؤامرات، كفاها معاناةً وقهراً، فهي اليوم تشكل أفقر مدينة على ساحل المتوسط، ولم تصل الى هذا الدرك، إلا باسهام كبيرٍ ممن تعاقبوا على تولي السلطة فيها.